سجناء يسردون قصصهم من داخل السجن وأداء نيابة البحث يراكم الأعداد في سجن البحث الجنائي: جناة في الخارج ورهائن في الداخل، رحلة خلف القضبان (3)

1363443060

أقسى مشاعر القساوة لدى السجين، هي تلك اللحظات التي يقضيها خلف القضبان يصارع الوجع والآلام النفسية، بينما غرماؤه في الخارج يمارسون طقوس الحياة اليومية باعتياد طبيعي، وتزداد المرارة حينما يكون ذلك السجين مظلوماً، أو قضيته بحاجة إلى مزيد من التحري وسرعة التحقيق لكشف ملابسات الحادث حتى تتضح الحقيقة وتتكشف أبعاد القصة.

في سجن البحث الجنائي تبدو الحقيقة في واد والقائمون على السجن في واد آخر، أسلوب تكميم الأفواه وتعنيف المعترضين على الوضع داخل السجون نتائج طبيعية لأولئك الذين يعترضون على تلك الممارسات.

تكميم الأفواه

 سألتُ المسجونين هناك، لماذا تصمتون تجاه ما يحدث؟ ولا تتحدثون أو ترفعون شكواكم إلى المنظمات والهيئات الحقوقية عبر أهاليكم على الأقل، كانت الإجابة نظرات متبادلة بين السجناء مع ابتسامات ساخرة تستغرب ما طرحته من كلام، معتبرة ذلك أماني غير واردة.

يتذكر السجناء وهم يضحكون ساخرين زيارات اللجان الحقوقية من الصليب الأحمر الدولي ووزارة حقوق الإنسان وغيرها، ويصفون  أداء تلك الشخصيات التي تزورهم بأنها تمارس عملها كجزء من إسقاط واجب في إطار عملها اليومي لا أكثر، وبحسب حديث السجناء فتلك اللجان والوفود الزائرة تأتي وتقابلهم داخل السجون بصحبة الضباط القائمين على إدارة السجن، مما يجعل من الصعب التحدث إليهم والبوح بشكواهم وما يعتريهم من هموم خوفاً من العقاب الذي قد يتعرضون له إذا أفصحوا عن امرٍ ما من قبل إدارة السجن لاحقاً.

فقبل وصول اللجان يدخل الضباط إلى السجناء ويبلغونهم بالأمر، ويحذرونهم من الحديث عن أي وضع سيء عن إدارة السجن، بل إن مدير البحث الجنائي السابق أبو الرجال كان ينزل بنفسه إلى السجن ويتوعد السجناء بالعقاب، إذا أبلغوا عن أي مخالفات، ويحكي أحد السجناء أن لجنة من الصليب الأحمر الدولي زارت السجن ذات مرة وقبلها دخل عليهم أبو الرجال، وأنذرهم بالويل والثبور، وعندما دخلت اللجنة تفقدت المكان وقابلت السجناء، وسألتهم عن أحوالهم والجميع يرد عليها بالهمهمة والتمظهر بالارتياح، ما عدا شخص واحد انتفض من مكانه، وأخبر اللجنة بالإملاءات التي فُرضت عليهم، وكان جواب إدارة السجن أن ذلك الشخص ليس سوى مخبول؟ وأن ما قاله لا يصدقه عاقل. وبعد انصراف اللجنة نال جزاءه من العقاب الرادع ليكون مثلاً للبقية.

المشكلة الكبرى تكمن في نيابة البحث، فأداؤها يمضي ببطء، وبالتالي تتراكم الملفات والقضايا أمامها، ولا تستطيع ترحيل ملفات السجناء أولا بأول إلى النيابات المختصة، مما يؤدي إلى بقاء السجناء فترات طويلة داخل السجن، ويضاعف من تعقيدات بقائهم داخل البحث الجنائي.

 تلك هي أجزاء من فصول كثيرة وحلقات متشابكة، وكل تلك المعاناة لا تخلف سوى مزيد من التعقيدات في نفوس هؤلاء، فيخرجون إلى الحياة بمشاعر كراهية تغلي حقداً على كل رجال الدولة وعناصر الأمن البواسل.

سجن المشائخ

في السجن الخارجي المعروف بخمسة نجوم، كان هناك حوالي 12 شخصاً، وهم خليط من ضباط وأفراد أمن ورجال أعمال، تبدو حياتهم داخل السجن راقية جداً قياساً ببقية النزلاء في السجون الأخرى، مع أن التهم الموجهة إليهم لا تقل مكانة عن تهم السجناء في السجون المجاورة داخل البحث، فكل السجناء في البحث الجنائي أو السجون الاحتياطية لاتزال قضاياهم في طور الاتهام ولم تثبت الإدانة عليهم بعد، وتم تخصيص هذا السجن كما يطلق عليه-سجن المشائخ- للمشائخ بدرجة أساسية، وتلك مفارقة كبيرة وتمييز جهوي غير مقبول بين الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، فالمواطن الفقير الذي لا حول له ولا قوة يرمى في السجن كما ترمى حبة الذرة في البرميل، ويظل يعاني مرارة السجن دون مغيث أو مجيب حتى تتدخل عدالة السماء، أما الشيخ فيعيش حياته كما يشاء في الخارج بحماية نفوذه ونصرة قومه وعشيرته، وإن صادف ودخل السجن، فسيحل ضيفاً على سجن خمسة نجوم.

 صحيح أن هناك شخصيات اعتبارية في المجتمع لكن لماذا نبالغ في ظلم وإضعاف المواطن المغلوب على أمره، ونتعامل معه كدرجة ثانية من المواطنة بينما من يتمتعون بالنفوذ نتعامل معهم بمقياس آخر.

رجل الأعمال أبو الرجال

عبدالله يحيى أبو الرجال رجل الأعمال المعروف كان أحد نزلاء سجن المشائخ في البحث الجنائي، وحين دخلتُ إلى السجن كان قد مضى على سجنه عشرة أيام، قضاها مضرباً عن الطعام، مكتفياً بالماء والشاهي، احتجاجاً على عدم التحقيق معه في قضيته.

كان السجناء يشعرون أن بقاءه معهم يمنحهم وضعاً مادياً جيداً، فقد كان يزودهم بوجبة غداء دسمة عندما يتلقى وعوداً بالتحقيق معه، وفي كل مرة ينوي فيها كسر الأضراب عن الطعام تحضر له أسرته كبشاً ناضجاً كوجبة غداء، لكن لا أحد يأتي للتحقيق معه، وتكون وجبة الغداء من نصيب نزلاء السجن والضباط والأفراد القائمين على السجن، وتكرر ذلك لثلاث مرات.

ما عرفته عن قضية “أبو الرجال” داخل السجن هو أن لديه خصومة مع شخص آخر، وبعد خروجي عرفت أن تفاصيل قضيته تختلف تماماً عن تلك الرواية التي كان يدلي بها خلف قضبان السجن.

كان وجود “أبو الرجال” يعطي نقطة أمل للسجناء، فهذا الرجل المعروف بثراء أسرته هو الآخر داخل السجن فما بالك بنا نحن الفقراء أو المظلومين،-كما يعتقد هؤلاء-، وبعد 12 يوماً من السجن خرج أبو الرجال بعد التحقيق معه، لكن قضيته لا تزال واحدة من أكبر القضايا المنظورة أمام القضاء، والتي شارك في التحقيق بها وحدة مكافحة الإرهاب بالأمن القومي والنيابة الجزائية المتخصصة.

الدكتور طه الرفاعي

حين دخلتُ السجن ليلاً لم أرى الدكتور طه الرفاعي، وفي الصباح تعرفتُ عليه، وتناولنا أطراف الحديث حول قضايانا، فهو رجل أعمال وخريج كلية الطب ويملك مستشفى خاصاً باسمه في مدينة تعز.

اشترى جهازاً طبياً من إحدى الشركات العائلية المرموقة في بلادنا عن طريق التقسيط بمبلغ كبير، وتعاقد معها على صيانة الجهاز لمدة سنة كاملة، وبعد انقضاء ستة أشهر توقف الجهاز عن العمل، ورفضت الشركة إصلاح الجهاز حسب العقد الموقع بينهما معتبرة أن الخلل الذي أصاب الجهاز ليس من طرفها، وفي نفس الوقت ظلت تطالب بتسديد الأقساط الشهرية.

وبحسب كلامه فقد كانت لديه قضية منظورة أمام المحكمة التجارية في صنعاء، وأمام القضاة طلب منه محامي الشركة أن يتبعه إلى خارج المحكمة ليسلم له صورة من العريضة التي قدمها للمحكمة فتبعه كما طلب، وكان هناك مجموعة من العسكر قد تم استئجارهم، قبضوا عليه واقتادوه الى سجن البحث الجنائي في صنعاء، وهناك سجن لمدة 8 أيام ثم نقل إلى محافظة  تعز إلى نيابة الأموال العامة وسجن فيها أيضا يومين.

كان يشعر أن النفوذ الذي تملكه الشركة التي اشترى منها الجهاز أكبر منه وأكبر من سلطة القضاء، ومثل حجر عثرة أمام إنصافه أو تحريك القضية في مجراها القانوني رغم أنه وكّل اثنين من المحامين لمتابعة قضيته.

الآن الرفاعي خرج من السجن وأطلق سراحه، ولكن ذاكرته تختزن العشرات من القصص المأساوية التي رآها والتقى بأفرادها ولن ينساها، عاد للعمل في مشفاه لكن بأحاسيس مختلفة يشعر بها تجاه هؤلاء الذين تركهم، وبدأ في حملة توعية بأوساط الناس ليطلعهم عن الحياة التي رآها خلف القضبان.

عساكر رهائن

مفهوم نظام الرهائن يقوم على احتجاز شخص أو أشخاص داخل السجن في قضية ليسوا متورطين فيها، حتى يتم حل القضية، أو إحضار الطرف المتورط في الجريمة، ويتخذ هذا النظام عدة صور وأشكال، لكنها في الأخير تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي حجر حرية شخص أو أشخاص وعدم إخضاعهم للإجراءات القانونية المفترضة، فلا هم أطلق سراحهم ولا قضيتهم تحركت في أجهزة القضاء.

في سجن البحث الجنائي كان هناك اربعة من أفراد الأمن لا تتجاوز اعمارهم الـ 25، يبدو القلق والضيق واضحاً في ملامح وجوههم بفعل طول الفترة التي يقضونها داخل السجن.

كانوا الأربعة مع زميل لهم خامس في مهمة أمنية خرجوا بها على ضوء توجيهات رسمية بأمانة العاصمة –حسب روايتهم- وأثناء المهمة تجمع حولهم أكثر من 20 شخصاً محاولين سلب أسلحتهم الشخصية، أطلق أحدهم النار في الهواء لتفريق المحتجين الذين شكلوا حولهم دائرة بشرية للانقضاض عليهم، لكن كانوا يزدادون اقتراباً منهم، وأدى إطلاق النار من ذات الجندي إلى سقوط أحد المواطنين قتيلاً، فتفرق الناس وحضر الأمن إلى المنطقة لانتشال الجثة، وإعداد محضر حول الحادثة، فر الجندي الذي أطلق النار إلى قبيلته وعشيرته في خولان، وبقى زملاؤه الأربعة واحداً من تعز، وآخر من إب، والثالث من عتمة في ذمار، والرابع من صنعاء، وأودعوا جميعاً السجن خلف القضبان.

أصبح الجاني معروفاً وواضحاً بشهادة الشهود واعتراف الجنود، ومع ذلك لم تستطيع يد الأمن وأرجله العاجزة الوصول إليه، ودفع هؤلاء الأربعة ضريبة زمالتهم أياماً من عمرهم داخل السجن، بانتظار وصول الجاني.

صدى جريمة السجن المركزي

جندي آخر يبدو في منتصف العقد الرابع، كان يعمل ضمن طاقم الحراسة على السجن المركزي بصنعاء، وبعد وقوع جريمة اقتحام وتفجير السجن أدخل سجن البحث الجنائي.

يقول عن نفسه إنه كان حارساً في إحدى نقاط الحراسة عندما هاجمهم المعتدون، الذين سلبوه سلاحه وهددوه بالقتل إن أبدى أي حركة تجاههم ثم أدخلوه إلى أحد عنابر السجن، وأقفلوا الباب خلفه ولم ينتبه له أحد وعندما جاء زملاؤه ليتفقدوا غرف السجن بعد الحادثة وجدوه في إحدى الغرف.

يتحدث بمرارة عن الفعل الذي كان يجب أن يتصرفه، فإن هاجم المعتدين كان مصيره القتل، وإن استسلم للأمر فسيتهم بالعمالة وهذا ما حدث له.

تزوير ختم وزير الداخلية

في سجن البحث الجنائي كان هناك العقيد (م. ش) الذي يعمل في وزارة الداخلية، ويعد أقدم سجين داخل ذلك السجن، وكان شخصاً ذا أخلاق جيدة، وأصبح القائم على السجن والسجناء بسبب طول الفترة التي قضاها هناك.

قضيته التي أدخلته السجن هي اتهامه بتزوير الختم الرسمي لوزارة الداخلية، وإصدار تصاريح حمل سلاح مزورة للمواطنين وبعض المسؤولين.

 بالنسبة له يقول إن وزير الداخلية السابق اللواء عبدالقادر قحطان ووكيل الوزارة لشئون البحث محمد الغدارء هم من طلبوا منه واتفقوا معه على الدخول كعنصر أمني مع عصابة تعمل على إصدار التراخيص وتحمل ختم الوزارة، وأنهم طلبوا منه أيضاً الدخول للسجن للتمويه على العصابة وسيعملون على إخراجه لاحقاً، لكنهم –حسب كلامه- غدروا به وقذفوه في السجن دون أن يعملوا على مساعدته وإخراجه من السجن الذي قضى فيه أكثر من أربعين يوماً.

وما عرفته لاحقاً من سجين آخر التقيته في سجن البحث الجنائي كان قصة مختلفة.

يقول ذلك السجين وهو مسجون على ذمة ذات القضية إن العقيد (م. ش) هو الذي قام بتزوير ختم وزير الداخلية وفي نفس الوقت قام بأخذ نسخه من تصاريح حمل السلاح من مكتب وزير الداخلية وأعطى ذلك السجين، وبموجب هذه النسخة قام بطباعة تصاريح في دائرة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة عند موظف يدعى (م. ح) وكان يقوم بتوقيعها بدلاً عن الوزير ويختمها بختم الوزارة الذي بحوزته، وكان يسلم التصاريح إلى السجين لتوزيعها واستلام المبالغ عنها من أصحاب التصاريح.

وعن كيفية اكتشاف أمرهم يقول السجين قام أحد الاشخاص من أصحاب التصاريح بإبلاغ البحث بأن الأخ (م. ح) أحد أفراد التوجيه المعنوي يزور تصاريح وقام البحث بالقبض عليه وبعد ذلك تم القبض على شخص آخر يدعى (ف. ن). ويتابع السجين بالقول: (العقيد م. ش) هرب إلى ماليزيا وبعد عودته قام البحث بالقبض عليه، ثم قام بإيصالهم إلى منزلي وتم الهجوم على المنزل بعد صلاة العشاء، وأخذوني إلى البحث، وبقيت داخل زنزانة انفرادية لمدة شهرين، وبعد ذلك قاموا بإرسالنا إلى نيابة الأموال العامة، وبالنسبة للعقيد (م. ش) الذي كان يعمل مديرا لمكتب مستشار وزير الداخلية قاموا بإرساله إلى وزاره الداخلية، ومن ثم إلى سجن البحث الجنائي، وتم الإفراج عنه من الوزارة، رغم أنه هو الذي قام بكل المهمة، حسب قول السجين.

كان ذلك السجين يتحدث بمرارة تشعرك بحجم الظلم الذي لحق به، ومدى المعاناة التي تعرض لها، يقول: اقتحموا بيتي وأخذوا  كل شيء في المنزل بما فيها بدلتي العسكرية، وأصيبت زوجتي بمرض ظلت لأكثر من شهرين داخل المستشفى جراء حالة الخوف التي أصابتها لحظة اقتحام البيت واعتقالي. ويضيف: أناشد رئيس الجمهورية والنائب العام بسرعة الإفراج عني، وإعادة ما تم أخذه من منزلي، وإنصافي من هذه القضية التي لم أكن على علم بخطورتها لولا ذلك الشخص.

عن صحيفة الناس